15‏/05‏/2016

اوغاد فى حياتى .. 26 - بُرعىّ .. !



كان (برعى) وأصدقائه (بحر) و(عتمان) و(فرخة) ، مصدر مستمر لإزعاج للسلطات ، كانوا عابثين شديدي التهور .
كان لديهم عادات سخيفة مثل مضايقة المارة ، التحرش بالنساء ، ممارسة الصوت العالى .
هكذا اشتكى أهل المنطقة ..
لكن ما كانوا يفعلونه ليلا أسوا بكثير ، تناول مخدرات ، قطع طرق ، خروج عن الوعي .
باختصار لم يبقى شيء لم يفعله (برعي) ورجالة ، سوى مُحاولة قلب نظام الحكم ، وهذا للأسف أُتيح لهم بعد الثورة .
يذكر (طارق) جيدا كيف انتقل لتلك المنطقة الشعبية ، وكيف تعرف على (برعى) شكليا عن بعد .
هناك لم تكن رفاهية التجاهل مُتاحة .
وإلا انتظرتك قائمة من الاتهامات أقلها إرهابى .
ما شفع ل(طارق) قليلا كى يبقى منعزل بعض الشيء ، الحاجز العلمي الذي يحملهم دائما .
ذلك حافظ على أن تظل المسافة بينه وبين سكان المنطقة كافية , خاصة الوغد (برعى) .
فالاثنين من عالمين مختلفين تماما يصعب معهم التلاقى .  
حتى جاء ذلك اليوم .

***

الدرب الأحمر .. ساعة متأخرة من الليل ..
(طارق) يجر قدميه ليصعد شقته يُمَنى نفسه ببعض الراحة ، بعد يوم طويل قضاه يعمل فى استقبال حكومى عشوائى .
دلف (طارق) للعمارة , فوجد (برعى) يجلس على سلالم المدخل ، يقطع أصابع الحشيش بعناية مع أحد رجالة ويدخن طُربيد فى فمه ..
-" بضاعة جيدة .. "
لمح (طارق) بطرف عينيه فابتسم دون اهتزاز ..
-" تفضل ااااااادكتور ... "
لم يجد (طارق) أمامه سوى ممارسة الاستخفاف بالأمر ، وإلا صار من الأعداء , رسم فوق شفتيه تلك الابتسامة السخيفة ..  
-" وقت تانى .. "
واستمر فى الصعود كأنه لم يرى شيء ، علق (برعي) بتأثر ..
-" مُحترم .. "
أضاف (فرخة) ..
-" منذ أن أتى المنطقة لم نسمع له صوت .. "
وعادوا لإتمام عملهم .
هكذا حشر (برعى) نفسه فى عالم (طارق) دون رجعه ، فى الوقت الذى كان فيه الاخير بأسوأ حالاته النفسية .

* * *
بعد مرور أسبوع تقريبا على تلك الأحداث ، جلس (طارق) قرب التاسعة مساء فى الاستقبال مُتوجس .
كان مُعدل الحالات أقل من اللازم فى ذلك اليوم .. وهذا فى عالم (طارق) لا يبشر بالخير ، فالكل كان مُعتاد على سيناريو أخر .. !
التمريض أخذ ينظر لبعضه البعض فى انتظار تلك الكارثة التى ستلون الأفق .. !
-" ربنا يستر .. "
-" لو لم يحدث شيء .. سيكون هناك أمر ما خطأ .. "
قرر (طارق) أن يدخل السكن ليتخلص من ذلك الهمس والإحساس بالترقب ، لكن فجأة بدأت الملحمة ..
دلف (عتمان) يعوى غارق فى دماءه يحمله اثنين للاستقبال بملابسهم الداخلية ، تراجع رجال الأمن وفزع التمريض ..
-" فين الدكتور .. الواد بيموت .. "
كادت الممرضه (عزيزة) أن يتوقف قلبها وهى تُشير ..
-" أهو يا خويا .. "
دخل (طارق) المشهد سريعا .. فوجد سنجه تدفعه في ظهره حتى غرفة الجراحة ، رقد (عتمان) على الطاولة ..
-" هيا .. اعمل حاجه .. "
انتفض (طارق) كأنه يمارس الطب للمرة الأولى ، ثم نظر لأكثر واحد فيهم حملت عينيه الرغبة في التفاهم ..
-" ما الذى حدث .. "
أشار البلطجى ل(عتمان) الغارق فى دماءه ..
-" أنت لسا هتسأل .. خلص وبعدين نتكلم .. "
بدأ (طارق) الفحص ، لكنه عاد يقول ..  
-" لابد من معرفة الذى حدث .. هذا سيساعد على التشخيص .. يعنى هل تعرض للضرب على رأسه مثلا .. "
فاض الكيل بالبلطجى العصبى وعروق رقبته تظهر ..
-" يا أم الغباء .. ما قلت لك بعدين .. "
تدخل الأخر ..
-" خناقة عادية يا دكتور .. "
تأمل (طارق) السنج العريضة فى أيديهم وهو يتمتم بين جوانب نفسه ..
-" فعلا تبدو عادية .. "
عاد العصبى يردد ..
-" بتقول حاجه .. "
-" أبدا يا كبير .. "
ثم أكمل فحصه , كان (عتمان) يعانى من أعراض ما بعد الارتجاج ، بالإضافة لتشوه الوجه بالكثير من الجروح ، تدخل (فرخة) بلهجة العليم بالأشياء ..
-" نريد أن يعود وجهه كما كان بالضبط .. "
كان (طارق) يود استخدام إحدى عباراته الساخرة مثل ..
-" أنا لست ساحر .. "
-" تستطيع الذهاب لمكان خاص .. "
ولكن نظرة واحدة للسنج المشهورة جعلته يتراجع ويأسر السلامة ، حتما ممارسة السخرية الآن أمر غير مأمون العواقب ..
قال بهدوء حذر ..
-" المشكلة ليست في جروح الوجه .. "
نظر له الجميع في ترقب ليُضيف بارتباك ..
-" أعنى .. لابد من أشعة مقطعية على الرأس .. "
-" ليه يا دكتور .. "
عدل نظارته ..
-" هناك اشتباه في وجود نزيف داخلى فى المخ .. "
اتسعت عين فرخة فى فزع ..
-" نزيف .. مخ .. والله لو حصل ل(عتمان) حاجه لذبح فى الشارع كله .. "
تدخل البلطجي ..
-" إخرص .."
اضاف (فرخة) فى تأثر وهو يحتضن رأس (عتمان) فى لحظة انسانية رائعة ..
-" أنا من تركك وحيد يا صاحبي .. "
ثم أخذ الزبد والمُخاط يتساقط من فمه وانفه ، قال الأكثر هدوء ..
-" والعمل يا دكتور .. "
كان (طارق) يتابع الموقف وقد نجح في السيطرة على رغبته في الترجيع ..
-" سأغلق الجروح وأعلق بعض المحاليل ، بعد ذلك سأنقله لمستشفى الجامعة .."
-" تمام يا دكتور .. "
كان (طارق) غير متأكد تماما من موضوع النزيف الداخلي بالمخ لكنه يود الخلاص منهم تحت اى مسمى .. 
بدأ العمل كالصاروخ لكن بعد مرور خمس دقائق بالضبط ، اقتحم (بحر) عليهم الغرفة يلهث ..
-" (الخواجة) في الطريق .. "
رفع (فرخة) السنجة بحماس ..
-" جاء لنهايته .. "
اضاف (بحر) ..
-" معه رجالة كثير .. "
صرخ العصبى ..
-" أين (برعي) .. "
-" لا اعرف .. بعد الخناقة اختفى وموبايل غير مُتاح .. "
وضع العصبى يده على فمه ورأسه مثلما يفعل اى بلطجى متحمس ..
-" وبعدين .. إيه الحل .. "
تدخل (طارق) بحذر ..
-" من هذا ال(الخواجة) حضرتك .. "
-" إخرص .. "
-" أمرك يا كبير .. "
وعاد يُكمل الخياطة يتمتم بسخرية ..
-" يبدو أنه شخصية هامة .. "
تدخل الأكثر هدوء ..
-" ليس أمامكم سوى الخروج لمواجهته حتى يُنهى الدكتور عمله .. "
-" ولو اقتحم الطوارئ .. "
تدخل (طارق) كأنه جزء من العصابة ..
-" اطمئن .. سنغلق الباب من الداخل ، أيضا أنا اقتربت من إنهاء عملي .. "
تبادل الرجال بعض النظرات ثم انسحبوا وأغلق باب الجراحة بالترابيس ، عاد (طارق) ينهى الغرز ..
-" تستطيع الآن إخباري من الخواجة هذا .. أم أنه أمر داخلي .. "
-" أبدأ يا دكتور .. (الخواجة) هو من أصاب (عتمان) .. "
ابتسم (طارق) ..
-" يبدو أنه يريد إنهاء مهمته .. "
-" على جثتنا .. "
عاد (عتمان) للوعي فجأة وكاد ينهض , استوقفه (طارق) ..
 -" لا داعي لهذا الحماس الآن .. "
نظر (عتمان) له ولزميله وأدرك ما يحدث ..
الغريب أنه لم يهتز والإبرة الجراحية تتخلل جسده ..



فى الطوارئ هناك دائما شخصان عصبيان ، احدهم يحاول أن يعلب دور البطل وينتصر للدولة والمستشفى .. وغالبا ما ينتهي دورة إما بالشهادة أو الهروب .
والثانى هو البلطجي أو أمين الشرطة الذي يفقد أعصابه سريعا .. وينظر لك تلك النظرة الحكومية المُبكرة بلسان حال يردد ..
-" انا عتريس وعليك احترامى .. "
كان (احمد) فرد أمن المستشفى هو الوحيد الذى يُجيد لعب ذلك الدور بسبب قدراته الجسدية ، استجمع شجاعته وتصدى ل(بحر) و(فرخة) وبقية العصابة .
-" السلاح ممنوع هنا يا رجالة .. دى مستشفى .. "
نظر له (بحر) في ذهول ..
-" هل تعرف ماذا حدث لأخر واحد قال لي هذا الكلام .. "
اقترب (احمد) بانتحار تصعيدي ..
-" لا .. "
-" مفقود .. "
كاد (بحر) فعلا أن تفلت أعصابه ، لكن فجأة أشار (فرخة) بحماس ..
-" الخواجة .. "
أزاح (احمد) جانبا لدرجة انه كاد يلصق بالحائط ، ثم تحرك وخلفه الجميع ، التقى الجمعان عند مقدمة المستشفى فى تحفز .
-" ماذا تريد يا (خواجة) .. "
اشرأبت عنقه للأمام ..
-" (عتمان) .. "
قال العصبى ..
-" الكلام أخذ وعطاء .. "
-" أنا حكمي نفذ .. "
-" تكلم على قدك .. "
لوح الخواجة بسنجته الفضية بالهواء ..
-" عندك حق .. كل واحد لازم يأخذ مقامه .. "
وبدأت المعركة ..

***
-" هي ليلة سوداء من أولها .. "
بدرت تلك العبارة من (طارق) بسخرية تحمل قدر من الاستمتاع ، وهو يشاهد ما يحدث من نافذة غرفة الطوارئ ..
-" والعمل .. لو نحج (الخواجة) ووصل هنا .. (عتمان) هيموت .. "
فكر (طارق) قليلا .. ثم فك فرامل سرير الطوارئ المتحرك ..
-" سنمنع هذا .. "
-" كيف .. "
-" تعالى معي .. "
وأخذ يدفع سرير (عتمان) نحو مصعد الطعام الجانبى ..
-" سنحاول تضيع الوقت لحين وصول الأمن .. "
-" تقصد الشرطة .. "
-" نعم .. "
-" لن يقترب احد طالما (الخواجة) هنا .. "
توقف (طارق) ..
-" لماذا .. "
-" لأنهم يخافون منه .. "
استكمل السير دون تعليق حتى وصل للمصعد ..
-" اسمي (عز) .. "
كان (طارق) أبعد ما يود معرفة اسمه ..
فتح باب المصعد فدفع سرير (عتمان) اليه ..
-" سأنتظر هنا .. حالته استقرت لا تقلق .. "
تفهم (عز)  وتحرك المصعد نحو الدور الخامس ، عاد (طارق) بسرعة ليتابع المعركة .. فوجد (فرخة) و(بحر) قد سقطا تحت أقدام (الخواجة) مثل النعاج ، رفع الأخير سنجته في الهواء باستمتاع ..
-" نفسك في إيه  .. "
قال احدهم بسخرية ..
-" يندبح طبعا .. أليس (فرخة) .. "
انتشرت موجة من الضحك وسط رجال (الخواجة) ، قبل أن يبصق (بحر) الدماء التي تملأ فمه في وجهه ، مسح (الخواجة) ما أصابه بتوحش ..
-" حلاوة روح .. "
ورفع السنجة بغل ، لكن فجأة تسمرت يده في الهواء ، التفت بذهول ليعرف من جَرأ على مَسك يده بتلك القوة ..
-" (برعي) .. "
وهوت سنجه مُضادة تشق كتفه وجزء من ذراعه ، تسمر الجميع لثواني قبل لحظة الانفجار ..
صرخ (فرخه) و(بحر) وكل الرجال الذي أحضرهم (برعي) معه ، بهجوم مضاد أحدث التوازن ..
تراجع (الخواجة) وسط رجالة ينزف الدماء بغزارة ، لاحقة (برعي) بثقة ، حاول الهرب لكن بدت كل الطرق مغلقة ..  
هنا لم يجد أمامه سوى باب الطوارئ المفتوح ..





عند لحظة اقتحام طوارئ أي مستشفى حكومي ، يصير الطبيب تحت الأحذية وقد تُكتب له الشهادة على يد بلطجى مُتحمس .
طبعا بعد الموت ستكرمه النقابة ، وسيقول عنه الزملاء والدولة كم هي حزينة لما حدث .
سيضع الأصدقاء صورة (طارق) على بروفيلات التواصل الاجتماعي لفترة قد تتجاوز الاسبوع .
وقد يتحمس البعض أكثر ويصنع له صفحة اسمها (كلنا الوغد طارق) ، هذه أمور صارت مفهومة فى مصر ..
-" دكتور .. إنه قادم نحونا .. ماذا سنفعل .. "
هكذا صرخت (عزيزة) بهستيريا ..
وقبل أن يُجيب كان (الخواجة) قد اقتحم الطوارئ وأغلق بوابتها الحديد خلفه ، هذه المرة وجد (طارق) السنجة فوق رقبته ..
-" لماذا العصبية .. انظر أنا اعزل .. "
ثم أظهر يديه يلوح بهما ..
-" أمامي .. "
-" حاضر .. "
كانت الدماء تنزف منه بغزارة ..
-" لن تستمر كثيرا هكذا .. "
بدأ (الخواجة) يترنح ..
-" دعني أعالجك .. "
أنزل السنجة ثم نام فوق الطاولة التي نام عليها (عتمان) ..
-" هذا أفضل .. "
أسرع (طارق) تضميد الجرح وتخيطه ، وتعويضه ببعض المحاليل .. لا لشيء سوى انه لا يريد جثث في الطوارئ .
شارف على الانتهاء عندئذ وجد السنجة تُوضع على رقبته ..
-" أين (عتمان) .. "
نظر (طارق) لجدية عينيه فقال مباشرة ..
-" في الدور الخامس سيادتك .. "
نهض الخواجة يترنح دون تضيع ثانية يصعد السلالم ، اندفع (طارق) يصرخ ..
-" افتحوا الطوارئ .. "
دلف (برعي) ..
-" أين ذهب .. "
-" الدور الخامس .. سيقتل (عتمان) .. "
أسرع (برعي) يلحق بهم ، في اللحظة التي عاد فيها مصعد الطعام يستقر في الدور الأرضي ، ترقبه (طارق) بحذر وهو يفتح ، ظهر خلفه (عز) و(عتمان) سائر على قدمه .. فتوقف (برعي) عن الصعود وعاد يسند رجله رمز المقاومة ..
-" حمد الله على السلامة .. "
تلفت (عز) ..
-" لولا الدكتور لكان (عتمان) الآن قد مات .. "
التفت (برعي) ينظر له في امتنان ..
-" جميلك في رقبتي .. "
لوح (طارق) بيديه كالأطفال ..
-" أنا لم أفعل شيء ، المهم أن تنصرفوا الآن قبل أن يضيع الوقت .. "
-" معك حق .. "
واختفى الجميع من الطوارئ ..
طبعا مشكلة (طارق) لم تكن مع الخواجة .. الذي سيهبط بعد قليل بعدما يكتشف الخدعة .. !
مشكلته الحقيقية كانت مع (برعي) ورجاله ..
فما حدث اليوم يعنى أن (طارق) صار قريب منهم أكثر من اللازم ..
وهذا ما كان لا يريده منذ البداية ..
فالقرب يعنى المزيد من معرفة الأسرار مما سيستدعى التصفية في النهاية ..
لأنهم حتما لن يثقون في وعد (طارق) بأنه لن يًخبر أحد ..
ولهذا قصة طويلة اخرى طويلة ..
ستجدونها ان شاء الله فى العدد رقم (2) من سلسلة روايات (اوغاد فى حياتى) ..
villain (النذل) ... 




                                                     تمت .....